ملخص المقال
فقهاء الأمة كثيرون، لكن انشار علم الأئمة الأربعة يعود إلى أنهم أنشأوا مدارس كان لهم فيها أتباع وطلاب حافظوا على علمهم ونشروه.
فقهاء الأمة كثيرون، ومع ذلك فالمذاهب الفقهية معدودة، لا يقل الليث بن سعد، أو الأوزاعي، أو سفيان الثوري، أو الحسن البصري، عن الأئمة الأربعة، ولكن تفوَّق الأربعة في أنهم أنشأوا مدرسة كان لهم فيها أتباع وطلَّاب، وهؤلاء هم لذين حافظوا على علم هذه المدارس فانتشر، وفي هذا المقال نتحدَّث عن مدرسة أبي حنيفة.. كيف كانت؟
طرق فريدة لأبي حنيفة لتعليم طلابه:
قال المـُوفَّق المكي (من فقهاء الحنفية ومؤرخيها في القرن السادس الهجري): «وضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم اجتهادًا منه في الدين، ومبالغة في النصيحة لله ولرسوله والمؤمنين، فكان يلقي مسألة مسألة، يقلِّبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده، وربما ناظرهم شهرًا أو أكثر من ذلك، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها، وإذا أُشكلت عليه مسألة قال لأصحابه: ما هذا إلا لذنب أذنبته. ويستغفر، وربما قام وصلَّى، فتنكشف له المسألة، ويقول: رجوتُ أنه تيب عليَّ».
كان أبو حنيفة أحيانًا كان يعقد المناظرات بين الطلبة: قال حماد بْن أبي حنيفة: «رأيتُ أَبَا حنيفة يومًا وعن يمينه أَبُو يوسف، وعن يساره زُفَر، وهما يتجادلان فِي مسألة، فلا يَقُولُ أَبُو يوسف قولًا إلا أفسده زُفَر، ولا يَقُولُ زُفَر قولًا إلا أفسده أَبُو يوسف إلى وقت الظهر، فلما أذن المؤذن رفع أَبُو حنيفة يده فضربَ بِهَا عَلَى فخذ زُفَر، وقال: لا تطمعُ فِي رياسة ببلدة فيها أَبُو يوسف، قَالَ: وقضى لأبي يوسف عَلَى زُفَر».
أهم تلاميذ أبو حنيفة:
من أشهر تلاميذ أبو حنيفة أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: الذي كان أبوه عربيًا وأمه فارسية، وهو أقدم صحبة لأبي حنيفة من صاحبيه أبي يوسف ومحمد، غير أنه لم تؤثر عنه كتب، ولم تُعرف له رواية لمذهب شيخه، ويظهر أن السبب في ذلك وفاته بعد أبو حنيفة بنحو ثماني سنوات فقط، وذلك عام 158هـ، وقد نقل تلاميذه بعض أرائه وفقهه من بعده، فعرفنا منها قدراته العلمية والعقلية.
العدد الكامل: قال إِسْمَاعِيل بْن حماد بْن أبي حنيفة: قَالَ أَبُو حنيفة يومًا: أصحابنا هَؤُلَاءِ ستة وثلاثون رجلًا، منهم ثَمانية وعشرون يصلحون للقضاء، ومنهم ستة يصلحون للفتوى، ومنهم اثنان يصلحان يؤدبان القضاة وأصحاب الفتوى، وأشار إلى أبي يوسف وزفر.
اختبار الطلبة لمنعهم من الغرور
كَانَ أَبُو يُوسُف مَرِيضا شَدِيد الْمَرَض فعاده أَبُو حنيفَة مرَارًا فَصَارَ إِلَيْهِ آخر مرّة فَرَآهُ ثقيلا فَاسْتَرْجع ثمَّ قَالَ: لقد كنت أؤملك بعدِي للْمُسلمين وَلَئِن اصيب النَّاس بك ليموتن مَعَك علم كثير ثمَّ رزق الْعَافِيَة وَخرج من الْعلَّة فَأخْبر أبو يُوسُف بقول أبي حنيفَة فِيهِ فارتفعت نَفسه وانصرفت وُجُوه النَّاس إِلَيْهِ فعقد لنَفسِهِ مَجْلِسا فِي الْفِقْه وَقصر عَن لُزُوم مجْلِس أبي حنيفَة فَسَأَلَ عَنهُ فَأخْبر إنه قد عقد لنَفسِهِ مَجْلِسا وأنه بلغه كلامك فِيهِ فَدَعَا رجلا كَانَ لَهُ عِنْده قدر فَقَالَ سر إِلَى مجْلِس يَعْقُوب فَقل لَهُ: مَا تَقول فِي رجل دفع إِلَى قصَّار ثوبًا ليقصِّره بدرهم فَسَار إِلَيْهِ بعد أَيَّام فِي طلب الثَّوْب فَقَالَ لَهُ الْقصَّار: مَا لَك عِنْدِي شَيْء وَأنْكرهُ ثمَّ إِن رب الثَّوْب رَجَعَ إِلَيْهِ فَدفع إِلَيْهِ الثَّوْب مَقْصُورًا أَله أُجْرَة؟ فان قَالَ: لَهُ أُجْرَة فَقل: أَخْطَأت وان قَالَ: لَا أُجْرَة لَهُ فَقل: أخطأت فَسَار إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ أبو يُوسُف: لَهُ الأجرة فَقَالَ لَهُ: أَخْطَأت فَنظر سَاعَة ثمَّ قَالَ: لَا أُجْرَة لَهُ فَقَالَ لَهُ: أَخْطَأت فَقَامَ أَبُو يُوسُف من سَاعَته فَأتى أَبَا حنيفَة فَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بك إِلَّا مَسْأَلَة الْقصار قَالَ: أجل فَقَالَ: سُبْحَانَ الله من قعد يُفْتِي النَّاس وَعقد مَجْلِسا يتَكَلَّم فِي دين الله وَهَذَا قدره لَا يحسن أن يُجيب فِي مَسْأَلَة من الْإِجَارَات فَقَالَ: يَا أبا حنيفَة عَلمنِي. فَقَالَ إِن كَانَ قصره بَعْدَمَا غصبه فَلَا أُجْرَة لَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قصره لنَفسِهِ وَإِن كَانَ قصره قبل أن يغصبه فَلهُ الْأُجْرَة لِأَنَّهُ قصره لصَاحبه ثمَّ قَالَ من ظن أَنه يَسْتَغْنِي عَن التَّعَلُّم فليبك على نَفسه.
الاطمئنان على قلوب الطلبة
قال أبو حنيفَة: «من تكلم فِي شَيْء من الْعلم وتقلده وَهُوَ يظنّ أن الله لَا يسْأَله عَنهُ كَيفَ أفتيت فِي دين الله فقد سهلت عَلَيْهِ نَفسه وَدينه». وقد رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ ابْنَهُ حَمَّادًا يُنَاظِرُ فِي الْكَلَامِ فَنَهَاهُ فَقَالَ: «رَأَيْتُك تُنَاظِرُ فِي الْكَلَامِ وَتَنْهَانِي فَقَالَ: كُنَّا نُنَاظِرُ وَكَأَنَّ عَلَى رُؤْسِنَا الطَّيْرَ مَخَافَةَ أَنْ يَزِلَّ صَاحِبُنَا وَأَنْتُمْ تُنَاظِرُونَ وَتُرِيدُونَ زِلَّةَ صَاحِبِكُمْ وَمَنْ أَرَادَ زِلَّةَ صَاحِبِهِ فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَكْفُرَ فَهُوَ قَدْ كَفَرَ قَبْلَ صَاحِبِهِ».
وفي وصيته الجامعة لأبي يوسف قال كلامًا كثيرًا نفيسًا كان منه: إِنْ بَقِيت عَشْرَ سِنِينَ بِلَا كَسْبٍ وَلَا قُوتٍ فَلَا تُعْرِضْ عَنْ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّك إذَا أَعْرَضْت عَنْهُ كَانَتْ مَعِيشَتُك ضَنْكًا، وَأَقْبِلْ عَلَى مُتَفَقِّهِيك كَأَنَّك اتَّخَذْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ابْنًا وَوَلَدًا لِتَزِيدَهُمْ رَغْبَةً فِي الْعِلْم، وَمَنْ نَاقَشَك مِنْ الْعَامَّةِ وَالسُّوقَةِ فَلَا تُنَاقِشُهُ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ مَاءَ وَجْهِك، وَلَا تَحْتَشِمْ مِنْ أَحَدٍ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ سُلْطَانًا وَلَا تَرْضَ لِنَفْسِك مِنْ الْعِبَادَاتِ إلَّا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ غَيْرُك وَيَتَعَاطَاهَا فَالْعَامَّةُ إذَا لَمْ يَرَوْا مِنْك الْإِقْبَالَ عَلَيْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُونَ اعْتَقَدُوا فِيك قِلَّةَ الرَّغْبَةِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ عِلْمَك لَا يَنْفَعُك إلَّا مَا نَفَعَهُمْ الْجَهْلُ الَّذِي هُمْ فِيهِ[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك